بعض العلمانيين أو من يسمون أنفسهم بالتنوير الإسلامي كانوا شيوخا ودعاة وحماة عن الصف الإسلامي في بادئ أمرهم وقبل تحولهم وإنقلابهم رأسا على عقب وتغير مبادئهم وإختلاف خطابهم فيا ترى ما سبب تغير أولئك وإنتكاسهم بل وردة بعضهم؟
لقد بحثت في تاريخ بعضهم فوجدتهم درسوا في المحاضن الشرعية ونشأوا في حلق تحفيظ القرآن الكريم وتربوا في المراكز الصيفية وترعرعوا في المخيمات الدعوية بل إن بعضهم درس وتتلمذ على بعض كبار الشيوخ وكان مختصًا به ملازما له وثافن كبار طلابه ولكنهم تعرضوا لبعض المواقف -ولنقل تنزّلا- أنهم ظُلموا وتعرضوا إلى إقصائية وأنهم عانوا من الظلم والعدائية وربما حصل لهم تضييق في رزق أو إيذاء في معيشة أو محاربة في كسب داخل الصف الإسلامي مما لا يسلم منه أي صف وأي عمل، فهل كان هذا مبررًا لهم على ترك الصف الإسلامي وليس هذا فقط بل الإنضمام إلى معسكر عدوه بل ورميه بنبال الغدر وسهام الخيانة.
لقد إستغل العلمانيون تلك المواقف التي تعرض لها هؤلاء المتحولون وإستفادوا من الصدمات التي نالت هؤلاء المتغيرين فآووهم إليهم وقربوهم نجيا فدخلوا في ملتهم وصاروا من خاصتهم ونطقوا بألسنتهم.
وتأمل أيها الفاضل معي موقفا من مواقف الصحابة في هذا الشأن إنها قصة كعب بن مالك حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجره وصاحبيه فهجره المجتمع كله، ألا ما أصعبه من موقف! المجتمع كله يهجرك.. ولا يكلمك.. ولا يرد عليك سلما.. ولا يجيب لك قولا.
قال كعب حاكيا ذلك: فاجتنبنا الناس... تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
كأنه فارس لا سيف في يده *** والحرب دائرة والناس تضطرب
أو أنه مبحر تاهت سفينته *** والموج يضرب عينيه وينسحب
أو أنه سالك الصحراء أظمأه *** قيظ ووقّفه عن سيره التعب
حتى أقرب الناس له قرابته ورحمه قاطعوه قال كعب: حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله قال فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
وذو القربى يعد لدفع هول *** فما أغناني عن هول قريب
وأشد من هذا وذاك مقاطعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رضاه كل الرضا وحبه غاية الحب:
فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب
قال كعب: آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني.
لا تهجروا من لا تعوَّد هجركم *** وهو الذي بلبان وصلكم غذي
ورفعتمُ مقداره بالإبتدا *** حاشاكم أن تقطعوا صلة الذي
بل أُمر بأن يعتزل زوجته قال كعب: حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل إمرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل إعتزلها فلا تقربنها قال فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر... يالله لكعب بن مالك..
كروب لا تساويها الكروب *** وخطب لا تعادله الخطوب
وأضلاع سرى فيها التياع *** تكاد لهول كربته تذوب
وبعد هذه المواقف التي يهتز له الثابتون إلا من وفقه الله جاءه الإبتلاء آخر من نوع آخر إنه إبتلاء الدنيا وإبتلاء الترغيب، فإسمع إلى ما قال رضي الله عنه:... فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك قال فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها...
عرى العقيدة جلت عن مساومة *** ما قيمتي في الملا من غير معتقدي
فيا من ترك الخير بل صار في صف أعدائه لأجل مقاطعة بعض الشباب والصحبة لك أين أنت من مقاطعة كعب الذي قاطعه مجتمع كامل وأي مجتمع إنه مجتمع الصحابة؟ ويا من ترك الطريق بل صار من عوائقه لأجل قسوة شيخه عليه أو تنكر أستاذه له أو إزراء معلمه به أين أنت من كعب الذي قاطعه أشرف الخلق وحبيب رب العالمين وقرة عيون المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويا من يتنكب الصراط ويحيد عن السبيل ويخرج عن الدرب لمفارقة حبيب ومنابذة صاحب أين أنت من كعب الذي جفاه ابن عمه وإعتزلته زوجته؟ ويا من أغراه مال وجاه ومنصب ومكانة وإمرأة جميلة، أين أنت من كعب بن مالك الذي أحرق خطاب ملك الغساسنة الذي كُتب بحبر مسموم وبلغة الأفاعي؟ لله أنت يا كعب بن مالك:
وليس الليث من جوع يقاد *** إلى جيف تحيط بها كلاب
إن كريم الأصل والإنسان الحر وصاحب المبادئ لا يتنكر لقومه وجنسه وبلده لإساءة تبدر منهم ولسان حاله:
بلادي وإن جارت علي عزيزة *** وقومي وإن ضنوا علي كرام
وكذا صاحب الدين قد يسيء لك شخص من المحسوبين على أهل الدين ومن المحسوبين على الدعاة ومن المحسوبين على كبار العلماء فلا تترك الخير ولا تكن صيدا سهلا للمغرضين ولا كاشفا لهم عن عورات الصف الإسلامي.
الكاتب: عبدالرحيم بن سعيد الإسحاقي